أقسى أنواع الرحيل هو ما كان مباغتا وصادما وبلا مقدمات. ذلك أن حياتنا التي يتم تنظيمها وترتيبها في ضوء حضور الآخر تتعرض عند رحيله المفاجئ للكسر والاهتزاز ولشغور في الروح يحتاج إلى وقت طويل للامتلاء. وإذا كان الموت ــ بوجه عام ــ مدعاة للألم الممض والشعور الداهم بالفقدان، فإن موت الشعراء يخلف وراءه آلاما مضاعفة؛ لأنه يتسبب بنقصان المجاز في المخيلة والمياه في اللغة والأوكسجين في الهواء. وهو مباغت بأي حال حتى ولو كان الشاعر الذي يرحل طاعنا في الشيخوخة؛ لأن الشعراء والمبدعين هم أكثر من تليق بهم الحياة، ومن يجعلون حضورهم في العالم احتفالا لا حدود له بفرح العيش ونشوة الحب ومتعة الكتابة. برحيل أحمد فؤاد نجم تخسر الشعرية العربية أحد أكثر وجوهها صدقا وألقا والتحاما بقضايا الحرية والعدالة والإنسان. ومع أن صاحب «بلدي وحبيبتي» قد قارب الخامسة والثمانين من عمره، فإن لرحيله دوي الأعاصير في برية ساكنة؛ لأن حياته برمتها كانت أشبه بإعصار حقيقي من التمرد والاحتجاج والانقلاب على السائد. يبدو نجم من هذه الزاوية استمرارا أصيلا لشعر العامية المصري الذي عهد إليه أصحابه بمهمة الانقلاب على التردي ومحاربة الفساد الاجتماعي والسياسي وربط الشعر بوظائف ومهمات تحريضية بحتة، دون أن يعني ذلك تخليا عن القيمة الجمالية للنصوص التي تحول معظمها إلى أغنيات وأناشيد. وهو ما جسده بامتياز كل من بيرم التونسي ونجيب سرور وصلاح جاهين وعبدالرحمن الأبنودي.. وآخرين. شعر أحمد فؤاد نجم هو شعر الالتصاق الحميم بالمكان وأهله، والالتصاق الموازي بدورة الدم في العروق. ليس ثمة هنا من فوارق شاسعة بين المنطوق والمكتوب، بين لغة الفرد ولغة الجماعة، بما يدفع البشر المسحوقين تحت وطأة القهر والجهل والجوع إلى أن هناك من ينطق باسمهم ويتحدث بلغتهم ويعبر عن هواجسهم وتطلعاتهم. وهذا الشعر لا يعبر عن الفاجعة الإنسانية بفاجعة لغوية موازية، بل يذهب إلى الاصطدام بصخرة الحزن الصلبة بغية تفتيتها بالضحك المر والسخرية السوداء. لقد شكل التعاون الوثيق بين أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام قابلة حقيقية لاستيلاد روح النهوض المصري والعربي في سبعينيات القرن الفائت، والتي أوتيت أكلها المتأخرة مع اندلاع الربيعين المصري والعربي قبل سنوات ثلاث، بحيث استطاع هذا الثنائي الفريد أن ينفذ إلى وجدان أجيال عديدة ويصبح بالنسبة لها عنوانا ساطعا للثورة وأحلام التغيير. وإذا كان رحيل الشيخ إمام المبكر قبل عقد ونصف من الزمن قد ترك رفيقه مهيضا ووحيدا ومثقلا بالآلام، فإن غياب أحمد فؤاد نجم اليوم يقلص إلى حد بعيد منسوب الفرح والجمال والالتزام بوعود المستقبل في كل مكان من الأرض العربية.